عبدالرحيم بوعبيد

عبد اللطيف وهبي31 مارس 201854 مشاهدةآخر تحديث :
عبد اللطيف وهبي

((الشرط الأساسي للصراع من أجل الشرف هو أن تكون شريفا)) يوسف بناش

مرت أربعة عقود على تلك اللحظات، والتي ما تزال ماثلة أمامي وكأنها جرت بالأمس القريب. كان القيادي عبدالرحيم بوعبيد جالسا في بهو فندق بأكادير، يملكه عباس القباج، وتتحلق حوله بعض الشخصيات السوسية، يحضرني منها الحاج عمر الساحلي والوثير مولاي احفيظ. من حسن حظي أني كنت أرافق والدي في هذا اللقاء، كان العناق حارا بينهما. جلست بالقرب من الجالسين، أُمعن النظر في عبدالرحيم بوعبيد وهو منشغل في حديثه معهم، كنت شديد الانبهار بهذا الزعيم الوطني، الذي كان حديثه سلسا وتحليله جريئا يثيرني بشكل غريب.

وفجأة، استدار نحوي قائلا: “كيف أنت يا بني؟ وكيف هو مشوارك الدراسي”؟ كنت أرد عليه وأنا أشعر بارتباك شديد، نظرا لحضور قوة شخصيته، فالرجل اشتغل مع الملك محمد الخامس، وعارض بندية كبيرة الملك الراحل الحسن الثاني.

بعدها انتقلنا بالسيارات صوب ساحة عمومية بـ”تالبورجت” وسط مدينة أكادير، حيث كانت الجماهير الغفيرة تنتظر ظهور الزعيم ليخطب فيها، وسي عبدالرحيم بنظارته الطبية السوداء، وسيجارته من نوع التبغ العادي، ظل لساعات طوال يخطب في جمهوره، الكل كان واقفا مشدوها، إذ يبدو أن الجميع يريد أن يسمع الزعيم، والحقيقة أن عبدالرحيم بوعبيد لم يكن يخاطب تلك الجماهير مباشرة فقط، بل كان يوجه رسائل إلى جهات عليا ومختلفة، وهي الطريقة التي كان يتقنها بوعبيد وحده، في حين فشل فيها الآخرون.

وهكذا ظل الزعيم بوعبيد يمارس السياسة بكبرياء وشموخ حتى رحل، فمات نظيف اليد مرتاح الضمير، محفوفا بتلك اللامبالاة التي تعامل بها مع امتيازات الحياة وموقعه.

وكنت قبلها حضرت تجمعا للزعيم عبدالرحيم بوعبيد بسينما الصحراء بتارودانت، وحضرت بعدها كثيرا من خطاباته واجتماعاته الحزبية، قد أزعم أنني تعلمت السياسة على يديه، لكن الرجل كان يتميز بنفحة الجرأة والاستقلالية، ناسيا ذاته من أجل الآخرين، قاد حزبا بكثير من الموضوعية والإدراك الشديد لقدرات الحزب في مجتمع ونظام سياسي شديد التعقيد، ولكنه ظل حاضرا ولم يستطع أحد أن يتجاوز حضوره السياسي.

فالرجل بهدوئه وصمته وتعدد قراءاته الكامنة في عشقه الكبير للكتاب، ظل حاضرا في الساحة السياسية بقوة وبتواضع، وحين رحل الرجل عنا، كأن السياسة احتجبت بعده.
في كثير من الأحايين وأنا جالس أتأمل مرحلتنا السياسية التي نعيشها اليوم، أشعر بتلك الهوة السحيقة بين ما كان مع الرجل، وبين ما هو كائن مع الآخرين، فتستفزني المقارنة، وكأن الزمن السياسي قرر أن يظلمنا، أو كأننا جئنا في زمن يتسم بالكثير من مضيعة الوقت.

وبقدر ما كان الرجل نحيفا في جسده، كان قويا في السياسة (…). سيظل بوعبيد ذلك الوطني ورجل الدولة، الزعيم والوزير، القائد والسياسي المحنك الكبير الذي كان لا يفتح ثغره إلا عند الضرورة، ولا يتحدث إلا عندما يريد أن يضع النقط على الحروف.

كان بوعبيد والملك الحسن الثاني يملكان لغة خاصة للتخاطب فيما بينهما. وحدهما فقط من يستطيع فك شفراتها الخاصة، كما كان صراعهما قويا، ولكن كل واحد منهما يقدر الآخر، لأن كل واحد منهما يعرف الآخر حق المعرفة.

برحيل الرجل ومن كان حوله، يبدو أنه من نكد الدنيا على المرء أن يعايش شخصيات مثل عبدالرحيم بوعبيد، وينتهي به الزمن إلى الاختلاط بشخصيات من مستوى آخر، فلا يمكنه إلا القول: “اللهم إنا لا نسألك رد الزعماء، ولكن نسألك اللطف فيهم”.

اترك تعليق

يجب ان تسجل الدخول لكي تتمكن من إضافة التعليقات

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق